المسيرة العلمية لاكتشاف الأنسولين: من ربط البنكرياس بالسكري (ميرينج ومينكوسكي) إلى العزل المنقذ للحياة (بانتينج وزملائه)

مسيرة اكتشاف الأنسولين: من التجربة الجراحية إلى العلاج المنقذ للحياة

يمثل اكتشاف الأنسولين قصة كلاسيكية للبحث العلمي المتسلسل، حيث بنى كل جيل من العلماء على اكتشافات من سبقوهم. يمكن تفصيل هذه المسيرة في النقاط التالية:


1. الإثبات التجريبي لدور البنكرياس: جوزيف فون ميرينج وأوسكار مينكوسكي (1889م)

لم يكن دور البنكرياس في تنظيم السكر واضحاً قبل تجربة عام 1889. كان الاعتقاد السائد يركز على وظيفته الهضمية.

  • التجربة الحاسمة: قام كل من جوزيف فون ميرينج (طبيب صيدلي) و أوسكار مينكوسكي (طبيب سريري) في ستراسبورغ (التي كانت تتبع ألمانيا آنذاك) بإجراء عملية استئصال كامل للبنكرياس (Pancreatectomy) على الكلاب. كان الهدف الأصلي هو دراسة تأثير غياب البنكرياس على هضم الدهون.
  • الملاحظة غير المتوقعة: بعد الجراحة، لاحظ أحد الفنيين أن النمل ينجذب بشدة إلى بول الكلاب المستأصلة البنكرياس. هذه الملاحظة البسيطة قادت مينكوسكي إلى تحليل البول، ليجد كميات هائلة من السكر (الجلوكوز) فيه، وهي السمة المميزة لمرض السكري (البيلة السكرية).
  • الاستنتاج المحوري: أثبتت التجربة أن البنكرياس ليس فقط عضواً هضمياً، بل هو المصدر الوحيد في الجسم لإنتاج مادة (أو مواد) تتحكم في استقلاب السكر. هذا ألغى الاعتقادات القديمة بأن السكري مرض سببه الكبد أو الجهاز العصبي المركزي.


2. التسمية والفرضية: سير إدوارد شاربي-شيفر وجزر لانجرهانز (1910م)

بعد تحديد العضو المسؤول، تحول البحث إلى تحديد الهوية الدقيقة للمادة الكيميائية.

  • اكتشاف جزر لانجرهانز (1869م): قبل ذلك بسنوات، اكتشف طالب الطب الألماني بول لانجرهانز (Paul Langerhans) في عام 1869، أثناء دراسته المجهرية للبنكرياس، تجمعات خلايا صغيرة ومتميزة تختلف عن الأنسجة البنكرياسية المنتجة للإنزيمات الهضمية. لم يعرف وظيفتها، لكنها سميت باسمه.
  • فرضية شاربي-شيفر (1910م): ربط العالم البريطاني سير إدوارد شاربي-شيفر (Sir Edward Sharpey - Schafer) الاكتشافات السابقة ببعضها. افترض أن جزر لانجرهانز هي المسؤولة عن إنتاج مادة كيميائية داخلية (إفراز داخلي) تنقص لدى مرضى السكري.
  • اشتقاق الاسم "الأنسولين": صاغ شاربي-شيفر اسم "الأنسولين" (Insulin) لهذه المادة. وكما ذكرنا، الاسم مشتق من الكلمة اللاتينية "أنسولا" (Insula) التي تعني "جزيرة"، في إشارة مباشرة إلى جزر لانجرهانز التي تُنتج الهرمون.


3. العزل والإنقاذ: فريق تورنتو والاكتشاف المنقذ للحياة (1920-1922م)

على الرغم من معرفة العضو والاسم، استمرت الصعوبة في عزل الهرمون نقياً للاستخدام العلاجي. كانت الإنزيمات الهضمية القوية التي ينتجها البنكرياس تدمر الأنسولين قبل فصله.

  • تحدي بانتينج وبيست (1921م): في عام 1921، اقترح الجراح الكندي فريدريك بانتينج (Frederick Banting) فكرة عبقرية لتجاوز مشكلة الإنزيمات. اقترح ربط القناة البنكرياسية لمنع الإنزيمات من التدفق، مما يؤدي إلى انكماش الجزء الهاضم من البنكرياس وبقاء جزر لانجرهانز سليمة، وبالتالي يمكن استخلاص المادة منها.
  • العمل في تورنتو: عمل بانتينج مع طالب الدراسات العليا تشارلز بيست (Charles Best) في مختبر البروفيسور جون ماكلويد (John Macleod) بجامعة تورنتو. نجحوا في اتباع هذه الطريقة واستخلاص مادة فعالة.
  • التنقية بواسطة كوليب: كان العزل الأولي غير نقي. انضم الكيميائي جيمس كوليب (James Collip) إلى الفريق لتنقية المستخلص الخام، ونجح في إنتاج مادة نقية بما يكفي للحقن الآمنة.
  • أول علاج بشري (1922م): في يناير 1922، استخدم الأنسولين النقي لأول مرة على مريض بشري، وهو الصبي البالغ من العمر 14 عاماً ليونارد طومسون (Leonard Thompson)، الذي كان يحتضر بسبب السكري. كانت النتائج درامية ومذهلة؛ فقد انخفض مستوى السكر في دمه بشكل ملحوظ، وبدأ في التعافي.
  • جائزة نوبل (1923م): تقديراً لأهمية هذا الاكتشاف، مُنحت جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب في عام 1923 لبانتينج وماكلويد. وبشكل نبيل، شارك بانتينج جائزته المالية مع بيست، وشارك ماكلويد جائزته مع كوليب، اعترافاً بمساهمة الجميع.


خلاصة الأهمية:

مثل هذا التسلسل من الاكتشافات نقطة تحول كبرى، حيث تحول مرض السكري، الذي كان يعتبر حكماً بالإعدام في الطفولة، إلى مرض مزمن يمكن التعايش معه. وبدأ العلاج الأولي باستخدام الأنسولين المستخلص من بنكرياس الأبقار والخنازير، مما مهد الطريق لتطوير الأنسولين البشري المصنّع لاحقاً عبر الهندسة الوراثية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال