الاستراتيجيات المتكاملة لتشخيص الأمراض الوراثية:
يشكل تشخيص الأمراض الوراثية عملية معقدة ومتعددة المراحل، تتطلب دمجاً بين الفحص السريري الدقيق، وتحليل التاريخ الطبي العميق، واستخدام مجموعة واسعة من الأدوات المخبرية والجينية المتخصصة.
1. الركيزة السريرية والأسرية: التاريخ الطبي والفحص السريري
الخطوة الأولى والأكثر أهمية في تشخيص أي مرض وراثي تبدأ بالتقييم السريري الشامل:
أ. القصة السريرية التفصيلية للمريض (Anamnesis):
- يتم جمع معلومات دقيقة عن الأعراض التي يعاني منها المريض، وتوقيت ظهورها، وتطورها، وطبيعة تأثيرها على وظائف الجسم.
- يُركز على العلامات والأعراض التي تتوافق مع متلازمات وراثية معروفة (مثل ملامح وجه معينة، تشوهات خلقية، أو تأخر في النمو).
ب. السوابق العائلية (Family History) ورسم شجرة النسب (Pedigree):
- يُعد هذا عنصراً حاسماً، حيث يتم جمع معلومات عن وجود حالات مرضية مماثلة أو اضطرابات غير مفسرة أو حالات إجهاض متكررة أو وفيات مبكرة بين الأقارب.
- يساعد رسم شجرة النسب في تحديد نمط الوراثة المحتمل (سائد، متنحٍ، مرتبط بالكروموسوم X)، وهو ما يوجه الفحوصات الجينية اللاحقة. إذا كان المرض يتكرر في الأجيال، فمن المرجح أنه وراثي.
2. الأدوات المتممة: الفحوصات الشعاعية والمخبرية التقليدية
بعد وضع اشتباه سريري، تُستخدم مجموعة من الفحوصات التقليدية لتأكيد التأثير الوظيفي والتشريحي للمرض:
أ. الفحوصات الشعاعية (Radiological Examinations):
- قد تساعد أدوات التصوير (مثل الأشعة السينية، الموجات فوق الصوتية، الرنين المغناطيسي - MRI، أو التصوير المقطعي المحوسب - CT) في الكشف عن تشوهات هيكلية أو بنيوية داخلية مميزة لأمراض وراثية معينة. على سبيل المثال، يمكن كشف التكيسات الكلوية في أمراض مثل الكلى متعددة الكيسات الوراثية.
ب. الفحوصات المخبرية (Laboratory Tests):
- تشمل تحاليل الدم والبول والسوائل البيولوجية التي تقيس مستويات البروتينات، أو الإنزيمات، أو نواتج الاستقلاب (الأيض).
- هذه الفحوصات ضرورية لتشخيص أمراض التمثيل الغذائي الوراثية (Inborn Errors of Metabolism)، حيث يؤدي الخلل الجيني إلى نقص إنزيم معين يؤدي لتراكم مواد سامة أو نقص مواد ضرورية.
3. التحقق الجزيئي: دراسة المورثات والاستشارة الوراثية
عندما تشير الدلائل السريرية والمخبرية إلى مرض وراثي، يتم الانتقال إلى التشخيص الجيني لتحديد الطفرة بدقة:
أ. تحري المورثات المسؤولة (Molecular Genetic Testing):
- يتضمن هذا الإجراء تحليلاً دقيقاً للحمض النووي (DNA) لتحديد الطفرات (التغيرات) في تسلسل الجين (المورث) المسؤول عن المرض المشتبه به.
- تتراوح التقنيات من تسلسل جين واحد محدد إلى تسلسل الأكسوم بالكامل (Whole Exome Sequencing) الذي يدرس جميع الجينات المشفّرة للبروتينات، وصولاً إلى تسلسل الجينوم الكامل (Whole Genome Sequencing).
- هذه الاختبارات هي التي توفر "الاسم" الدقيق للمرض الجيني وتؤكد التشخيص بشكل قاطع.
ب. الاستشارة الوراثية (Genetic Counseling):
- تُعد جزءاً لا يتجزأ من عملية التشخيص. يقوم المستشار الوراثي بمساعدة المريض وعائلته على فهم طبيعة المرض، ونمط وراثته، والمخاطر المحتملة لتكراره في الأجيال القادمة، وتفسير نتائج الاختبارات الجينية المعقدة، ومناقشة الخيارات العلاجية والإدارية المتاحة.
4. التوضيح الهام: حدود دراسة الصيغة الصبغية (الكاريوتايب)
من الضروري التمييز بين أنواع الاختبارات الجينية، خاصة بين دراسة الكروموسومات (الصبغيات) والتحليل الجيني الجزيئي:
أ. الصيغة الصبغية العامة (Karyotyping):
- هذا الإجراء ينطوي على ترتيب وتعداد الكروموسومات (الصبغيات) لمعرفة العدد الإجمالي والشكل العام للكروموسومات.
- تستخدم لتشخيص الأمراض الكروموسومية التي تنجم عن خلل في عدد أو هيكل الكروموسومات الكبيرة (مثل متلازمة داون التي تنتج عن كروموسوم 21 إضافي، أو متلازمة تيرنر).
ب. لا تشخص الأمراض الوراثية (الجينية) النقطية:
- يجب الانتباه إلى أن دراسة الصيغة الصبغية بشكلها العام لا تشخص معظم الأمراض الوراثية التي تنجم عن طفرة صغيرة (تغير نقطي) في جين واحد محدد، لأن هذا التغيير الدقيق لا يمكن رؤيته تحت المجهر في الصورة الإجمالية للكروموسومات. هذه الأمراض تتطلب تحليلاً على مستوى الحمض النووي (DNA Sequencing).