الصلة السليمة نسبياً بالواقع: المعيار الفاصل بين العُصاب والذُهان، وتحليل دلالات البصيرة كجسر للإدراك الذاتي لدى المريض النفسي

الفروق الجوهرية: العلاقة بالواقع لدى المريض النفسي (العُصابي)

تُعدّ درجة الحفاظ على الصلة بالواقع المعيار الأهم والفاصل في علم النفس السريري للتمييز بين الاضطرابات النفسية (العُصاب) والاضطرابات العقلية (الذهان). يُظهر النص المقدم أن المريض الذي يعاني من اضطراب نفسي، أو ما يُسمى تاريخياً العُصاب، يحافظ على هذه الصلة بشكل كبير، وإن لم تكن كاملة الوظيفة.


بقاء الصلة بالواقع: السمة المميزة للاضطراب النفسي

على عكس المريض الذهاني الذي يعاني من هلاوس أو ضلالات تؤدي إلى تشوه جذري في إدراكه للواقع، فإن المريض النفسي تظل علاقته بالعالم الخارجي سليمة نسبياً، ولا يفقد صلته به، على الأقل من الناحية الشكلية أو السطحية.

  • الاتصال الاجتماعي: يبقى المريض النفسي على تواصله الواعي والمستمر مع الآخرين، ويحافظ على شبكته الاجتماعية والمهنية بشكل عام. هو يدرك محيطه، ويستطيع التفاعل مع القواعد الاجتماعية، ويدرك طبيعة علاقاته بالناس والأماكن من حوله.
  • الإدراك والوظائف العقلية: تظل وظائفه العقلية الأساسية، مثل الذاكرة والتفكير والمنطق، سليمة في جوهرها. فهو يعلم من هو، وأين هو، ويدرك الزمان والمكان. هذا الحفاظ على الإطار المعرفي العام هو ما يسمح له بالبقاء في الواقع.

آلية الإسقاط في اضطرابات الرهاب كمثال

يُقدم اضطراب الرهاب (Phobia) أو المخاوف المرضية كمثال واضح على هذا الاتصال بالواقع. فمرضى الرهاب لا يعيشون في عالم وهمي منفصل، بل هم:

  • يسقطون مخاوفهم الداخلية على العالم الخارجي: تنشأ المخاوف والقلق في الأساس كصراعات أو دوافع داخلية لا شعورية (كقلق الإخصاء أو دوافع عدوانية مكبوتة). وبدلاً من التعامل مع هذا القلق الداخلي الصعب، يقوم الجهاز النفسي بآلية دفاع تسمى الإسقاط (Projection).
  • تجسيد الخطر في الواقع: من خلال الإسقاط، يتم نقل هذا القلق الداخلي الغامض والمزعج وتجسيده في صورة خطر خارجي ملموس ومحدد (كخوف من الأماكن المرتفعة، أو العناكب، أو التجمعات). هذا التحويل يجعل القلق يبدو كأنه صادر من الواقع الخارجي.

دلالة الإسقاط على أهمية الواقع

إن عملية الإسقاط هذه نفسها تُعدّ دليلاً قوياً على اتصال المريض بالواقع وأهمية هذا الواقع بالنسبة له.

  • الواقع هو مسرح الصراع: لكي يتمكن المريض من "إسقاط" خوفه على مكان أو شيء في الخارج، يجب أن يكون مدركاً لوجود هذا الخارج وقيمته. لو كان المريض قد فقد صلته بالواقع بشكل جذري، لكان خوفه سيتجسد في ضلالات وهلاوس داخلية لا علاقة لها بالعناصر الخارجية المحددة.
  • الخوف الواقعي كحماية: إن تحويل القلق الداخلي غير المفهوم إلى خوف من شيء محدد (كخوف من الخروج من المنزل في رهاب الساح) يُعدّ محاولة من العقل الباطن لجعل القلق "مفهوماً" و"يمكن تجنبه". وهذا دليل على أن المريض ما زال يحاول التعامل مع الواقع والتحكم به عن طريق تجنبه، وليس إنكاره.

باختصار، المريض النفسي يظل "على الأرض" ولكنه يعاني من سوء استخدام أو سوء فهم لبعض جوانب الواقع أو المواقف ضمنه، بينما المريض العقلي يعيش في واقع مختلف تماماً صنعه عقله.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال