الختان بين الإلزام العقائدي والضرورة الطبية: مقارنة بين الختان الديني والختان غير الديني (الطبي والثقافي)

الختان (Circumcision): مقاربة مفصلة بين الدوافع الدينية والأسباب غير الدينية

يُعد الختان، وهو إجراء جراحي يتم فيه إزالة القلفة (جلد مقدمة القضيب)، أحد أقدم الممارسات التي عرفتها البشرية، ويختلف دوافع القيام به بشكل جذري بين المجتمعات، حيث تتراوح الأسباب بين الإلزام الديني، والتقاليد الثقافية، وصولاً إلى المبررات الطبية والصحية.


أولاً: الختان الديني (Religious Circumcision)

يُعتبر الختان طقساً أساسياً وضرورياً يمارس للامتثال لأمر إلهي أو كجزء من سنن الفطرة والعهد المقدس، ويتميز بما يلي:

1. الالتزام الديني والتاريخي:

  • في اليهودية: يُعد الختان (المعروف بـ "البريت ميلاه" - Brit Milah) ركناً أساسياً ورمزاً للعهد الذي أقامه الإله مع النبي إبراهيم عليه السلام وذريته. يُجرى الختان للذكور في اليوم الثامن من الولادة، وهو إلزامي ويسبق أي اعتبار صحي أو ثقافي آخر.
  • في الإسلام: يُعتبر الختان من سنن الفطرة المؤكدة، وذهب بعض الفقهاء إلى وجوبه على الذكور. يتميز الختان الإسلامي بأنه غالباً ما يُجرى في فترة الطفولة المبكرة أو السنوات الأولى من العمر، وقد يُؤجل في بعض الثقافات حتى سن البلوغ كجزء من طقوس العبور. الدوافع هنا هي الامتثال للسنة النبوية والتطهر.
  • في المسيحية (بعض الطوائف): تخلت غالبية الطوائف المسيحية عن الختان الجسدي بناءً على تعاليم القديس بولس التي اعتبرت أن "الختان هو ختان القلب بالروح لا بالكتاب". ومع ذلك، لا تزال بعض الكنائس الشرقية، مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبعض الكنائس في إثيوبيا وإريتريا، تحافظ على هذه الممارسة لأسباب تقليدية ودينية.

2. خصائص الختان الديني:

  • التوقيت: غالباً ما يكون محدداً بدقة (اليوم الثامن في اليهودية، أو في الطفولة المبكرة في الإسلام).
  • الضرورة: يُعتبر واجباً دينياً أو سنة مؤكدة، بغض النظر عن رأي الوالدين أو الدوافع الطبية.
  • الاحتفال: يرتبط في كثير من الأحيان بطقوس واحتفالات دينية وثقافية تُكسب المولود هوية وانتماءً للمجتمع الديني.


ثانياً: الختان غير الديني (Non-Religious Circumcision)

يشمل الختان غير الديني جميع الممارسات التي تتم بناءً على دوافع طبية أو صحية وقائية أو ثقافية أو عرقية، دون وجود إلزام ديني مباشر.

1. الختان لأسباب طبية (وقائية وعلاجية):

يشير إلى إجراء العملية بناءً على توصية طبية واضحة:

  • الوقاية الصحية (الانتشار التاريخي): اكتسب الختان شعبية في الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، في القرنين التاسع عشر والعشرين، لأسباب صحية وقائية تتعلق بالنظافة والوقاية من أمراض معينة.
  • علاج الشبم (Phimosis): وهي حالة لا يمكن فيها سحب القلفة إلى الخلف بسبب ضيقها، مما يسبب الألم وصعوبة التنظيف.
  • علاج التهاب الحشفة المتكرر (Balanitis): التهابات متكررة لرأس القضيب والقلفة.
  • تقليل خطر الأمراض المنقولة جنسياً (STIs): أشارت العديد من الدراسات إلى أن الختان قد يقلل من خطر الإصابة ببعض الأمراض المنقولة جنسياً، بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، حيث يُعتقد أن نسيج القلفة أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.
  • الوقاية من سرطان القضيب: يعتبر الختان عامل وقائي ضد سرطان القضيب، وإن كان هذا السرطان نادر الحدوث.
  • سهولة النظافة: يُسهل الختان عملية تنظيف المنطقة بشكل كبير، ويقلل من تراكم الإفرازات الدهنية (Smegma) والالتهابات.

2. الختان لأسباب ثقافية أو عرقية:

في العديد من القبائل والمجتمعات العرقية، لا سيما في أجزاء من أفريقيا، يُمارس الختان كجزء من طقوس العبور من مرحلة الطفولة إلى الرجولة، وقد يُجرى في سن البلوغ. الهدف منه هو ترسيخ الهوية العرقية والاجتماعية والانتماء القبلي، وليس بالضرورة استجابة لنص ديني.


ثالثاً: الجدل والاعتبارات الأخلاقية والقانونية

أثار ختان الذكور نقاشاً واسعاً في المجتمعات الغربية المعاصرة، لا سيما عندما لا يكون الختان ملزماً دينياً أو ضرورياً طبياً:

1. الجدل الطبي والصحي:

  • الرافضون: يجادلون بأن الفوائد الصحية للختان في الأطفال الأصحاء ليست حتمية أو أساسية لدرجة تبرر إجراء عملية جراحية لطفل لا يستطيع إبداء الموافقة، ويشيرون إلى أن الختان يمثل "تغييراً في خلق الله" أو تقليلاً محتملاً للإحساس الجنسي لاحقاً.
  • المؤيدون: يؤكدون أن الختان إجراء جراحي بسيط وآمن نسبياً عند إجرائه في بيئة طبية معقمة، وأن فوائده الوقائية (مثل تقليل التهابات المسالك البولية والإيدز) تفوق المخاطر.

2. الاعتبارات الأخلاقية والقانونية:

  • حقوق الطفل: تدور المناقشات القانونية والأخلاقية حول حقوق الطفل والاستقلالية الجسدية. يرى البعض أن إجراء الختان دون موافقة الطفل (حيث يتم إجراؤه غالباً في مرحلة الرضاعة) ينتهك حقه في اتخاذ قرار بشأن جسده.
  • الحرية الدينية: تعتبر المحاكم في العديد من الدول هذا الإجراء جزءاً من الحرية الدينية أو الثقافية للوالدين. فمحاولات تجريم الختان غير الطبي في بعض الدول الأوروبية (كما حدث في ألمانيا وآيسلندا) أثارت انتقادات واسعة من الجاليات اليهودية والإسلامية.

مقارنة مفصلة: الختان الديني مقابل الختان غير الديني

يتشابه إجراء الختان جراحيًا، لكن دوافع ومحددات ممارسته تختلف بشكل جوهري بين الممارسة الدينية والممارسة غير الدينية.

1. الختان الديني:

يُمارس الختان الديني في المقام الأول استجابة لأمر إلهي أو كجزء من سنة مؤكدة وعهد مقدس.

  • الدافع الرئيسي: الامتثال لأمر إلهي أو سنة نبوية، ويُعتبر في الغالب إلزاميًا (مثل اليهودية) أو سنة مؤكدة (مثل الإسلام). الدافع لا يرتبط بالضرورة بتقييم طبي حالي، بل بالولاء للعقيدة.
  • التوقيت التقليدي: غالبًا ما يكون محددًا بدقة، مثل اليوم الثامن بعد الولادة في اليهودية، أو في مرحلة الرضاعة/الطفولة المبكرة في الإسلام. هذا التوقيت مرتبط بالطقوس وليس بالضرورة بتوقيت طبي مثالي.
  • الاعتبار الأولي: الالتزام بالعهد أو السنة مُقدم على الجوانب الأخرى. تُعتبر الجوانب الصحية الثانوية فوائد إضافية، وليست السبب الجذري للإجراء.

2. الختان غير الديني:

يشمل الختان غير الديني الإجراءات التي تتم بناءً على دوافع طبية، وقائية، أو ثقافية/عرقية، بمعزل عن أي إلزام ديني.

  • الدافع الرئيسي: يتحدد الدافع إما بالحاجة إلى الوقاية الصحية (لتجنب الأمراض أو تسهيل النظافة)، أو العلاج من حالات مرضية محددة (كالشبم أو التهابات الحشفة المتكررة)، أو بضرورات العادات العرقية والطقوس الثقافية.
  • التوقيت التقليدي: يكون متغيرًا ومرنًا. قد يُجرى عند الولادة (لأسباب وقائية في بعض الثقافات غير الدينية)، أو في أي عمر عند ظهور ضرورة طبية، أو عند سن البلوغ كجزء من طقوس العبور العرقية.
  • الاعتبار الأولي: يعتمد القرار بشكل أساسي على التقييم الطبي للمخاطر والفوائد (في سياق الختان الطبي)، أو على ضرورة الحفاظ على الهوية الثقافية والانتماء للمجموعة (في سياق الختان الثقافي).

في النهاية، يظل الختان قراراً معقداً يتشابك فيه البعد الديني والاجتماعي مع الاعتبارات الطبية والأخلاقية الحديثة، ويتم اتخاذه بناءً على المزيج من هذه العوامل في كل عائلة ومجتمع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال