أسباب وعوامل الإصابة بالذهان الارتيابي (البارانويا):
يُعد الذهان الارتيابي (الهُذاء) اضطرابًا معقدًا تتشابك في أسبابه عوامل وراثية، ونفسية، وبيئية، وعضوية. لفهم هذه الحالة بعمق، يجب تفصيل هذه الأبعاد المختلفة.
1. الأبعاد الوراثية والبيولوجية:
الاستعداد الوراثي والتاريخ العائلي:
- الاستعداد الوراثي: تلعب الوراثة دورًا هامًا في الاستعداد للإصابة بهذا الاضطراب. هذا لا يعني حتمية الإصابة، بل يعني وجود قابلية بيولوجية أعلى.
- التاريخ الإيجابي: غالبًا ما يُلاحظ وجود تاريخ إيجابي للاضطرابات العقلية أو اضطرابات الشخصية (خاصة الشخصية الارتيابية) ضمن العائلة المباشرة أو الأقارب المقربين للمريض، وتحديداً لدى الوالدين.
الأسباب العضوية والكيميائية:
- تأثير العقاقير: يمكن لبعض المواد والعقاقير أن تسبب أعراضًا ارتيابية (بارانوية) مباشرة، مثل الأمفيتامينات والمنشطات الأخرى.
- الأثر الدائم: في بعض الحالات، قد تترك هذه المواد أثراً دائماً أو طويلاً الأمد على البناء النفسي حتى بعد التوقف عن تعاطيها، مما يساهم في ظهور الأعراض المزمنة.
2. العوامل النفسية والصراعات الداخلية:
تنظر المدارس النفسية إلى الهذاء كنتيجة لـ صراع نفسي عميق بين رغبات الفرد والواقع الاجتماعي أو الأخلاقي.
الصراع والإحباط ودور الأنا:
- صراع الرغبات والمعايير: ينشأ الصراع بين رغبات الفرد في إشباع دوافعه الأساسية وبين الخوف من الفشل في إشباعها أو تعارضها مع المعايير الاجتماعية والمُثل العليا.
- الإخفاق وجرح الذات: يلعب الإحباط، والفشل، والإخفاق المتكرر في مجالات التوافق الاجتماعي والانفعالي دورًا محوريًا. يؤدي هذا إلى الشعور بـ الذل، النقص، وجرح الأنا (Self-Esteem).
- الاعتماد المفرط على حيل الدفاع: يصبح المريض معتمداً بشكل مفرط على حيل الدفاع النفسي غير الناضجة، والتي تظهر في النهاية على شكل أعراض الهذاء.
حيل الدفاع الرئيسية (المنظور التحليلي):
من أهم آليات الدفاع التي تُلاحظ هنا:
- الإنكار: رفض الاعتراف بواقع مؤلم أو دوافع غير مقبولة.
- التبرير: إيجاد مبررات منطقية (وهمية) لسلوكيات أو مشاعر غير مقبولة.
- التعويض: محاولة التفوق في مجال ما لسد النقص أو الإخفاق في مجال آخر.
- الكبت: دفع الرغبات والأفكار المؤلمة إلى حيز اللاشعور.
- الإسقاط (Projection): هي الحيلة الأكثر أهمية في الذهان الارتيابي، حيث يتم إسقاط الدوافع والمشاعر الداخلية التي تولد الشعور بالذنب (مثل العدوان أو الرغبات المكبوتة) إلى الخارج على "مضطهدين" أو "أعداء".
3. اضطراب نمو الشخصية وخبرات الحياة:
ترتبط القابلية للهذاء بوجود خلل في نضج الشخصية أو بالتعرض لخبرات صادمة تهز ثقة الفرد بنفسه.
نمو الشخصية غير الناضج:
- عدم النضج: يحدث اضطراب في نمو الشخصية قبل ظهور المرض، حيث تميل الشخصية إلى عدم النضج العاطفي والاجتماعي.
- السمات البارانوية والخيالية: يغلب على هذه الشخصيات سمات ارتيابية (بارانوية) مفرطة وخيالية (الانغماس في الأوهام والأحلام اليقظة) مما يجعلها أكثر عرضة للانهيار الذهاني.
خبرات الحياة الصادمة:
- تهديد الأمن الذاتي: المواقف التي تُشكل تهديدًا لأمن الفرد وقيمته الذاتية تزيد من القابلية، مثل: المنافسة الشديدة، الرفض الاجتماعي أو العاطفي، الشعور بالخزي أو الهزيمة المهنية أو الشخصية.
- قيمة الذات والمكانة: المشكلات التي تتركز حول احترام وقيمة الذات والمكانة الاجتماعية هي محفزات قوية.
4. دور البيئة الأسرية والمشكلات الجنسية (منظور التحليل النفسي):
اضطراب الجو الأسري:
- البيئة التسلطية والناقدة: إن الجو الأسري المضطرب الذي تسوده التسلطية المفرطة، الكبت، والنقد المستمر وعدم الدعم يشكل بيئة خصبة للاضطراب.
- التنشئة غير الكافية: نقص كفاية عملية التنشئة الاجتماعية (عدم تعليم الحدود والقيم بطريقة صحية) والفشل في تحديد مستوى طموح واقعي يتناسب مع قدرات الفرد يضعف قدرته على التوافق.
المشكلات الجنسية وسوء التوافق:
- الحرمان والعنوسة: ترتبط الحالة بـ المشكلات الجنسية وسوء التوافق الجنسي، بما في ذلك العنوسة، تأخر الزواج، والحرمان الجنسي.
- فرضية فرويد (الإسقاط الجنسي المكبوت): ترى مدرسة التحليل النفسي أن الهذاء الارتيابي غالبًا ما يكون نتيجة لـ الجنسية المثلية المكبوتة والمسقَطة، التي تولد الشعور بالإثم والذنب.
نموذج التحويل الدفاعي (وفق فرويد):
- الرغبة المرفوضة: "أنا أحبه" (تعبر عن الدافع المثلي اللاشعوري المرفوض اجتماعياً).
- التكوين العكسي: تتحول الرغبة إلى نقيضها "أنا أكرهه" (وهذا مرفوض أيضاً لأنه يعبر عن دافع عدواني غير مقبول).
- الإسقاط الدفاعي: تُسقط الكراهية إلى الخارج فتصبح "هو يكرهني ويضطهدني"، وبذلك يتم تبرير الشعور الداخلي بالخطر والذنب.