الآلية البيولوجية لعمل العلق الطبي: من الإحساس إلى العلاج
يُعد العلق (Leech) كائنًا حيًا يتميز بآلية تغذية معقدة ومذهلة، لا تقتصر على مجرد امتصاص الدم، بل تتضمن إفراز كوكتيل من المركبات الكيميائية ذات الخصائص العلاجية الهامة.
1. الإحساس بالضحية وآلية التثبيت:
عندما يدخل كائن حي (مثل حيوان أو إنسان) إلى بيئة مائية يوجد بها العلق، يستشعر العلق وجوده بسرعة. تبدأ العملية باتجاه العلق نحو الجزء المكشوف من الجسم والقيام بما يلي:
- التثبيت: يستخدم العلق الممص الأمامي (Anterior Sucker) لتثبيت نفسه بإحكام على جلد الضحية.
- الإحداث الجراحي: يقوم العلق بإدخال الفكوك الثلاثة المسننة التي يمتلكها. تعمل هذه الفكوك كأدوات جراحية دقيقة، مُحدثةً جرحًا سطحيًا مميزًا على شكل نجمة ثلاثية الشعب (أو خدش على شكل حرف Y). هذا الشكل يقلل من النزيف بعد انتهاء العلق من التغذية.
2. المركبات الكيميائية في لعاب العلق (الكوكتيل العلاجي):
يفرز العلق، بعد تثبيت نفسه وإحداث خدش ثلاثي الشعب في الجلد، لعابًا يحتوي على ثلاثة مركبات كيميائية حيوية رئيسية تعمل بتآزر لتسهيل عملية التغذية وتوفير فوائد علاجية:
- مادة الفازوديلاتور (Vasodilator): تتمثل وظيفتها الرئيسية في توسيع الأوعية الدموية في المنطقة المحيطة باللدغة. يؤدي هذا التوسيع إلى زيادة تدفق الدم بشكل كثيف إلى سطح الجلد، مما يسهل على العلق امتصاص الدم.
- مادة الهيرودين (Hirudin): تُعرف هذه المادة باسم "العلقين"، وهي مادة مانعة لتجلط الدم (مضاد تخثر) قوية جدًا. يضمن إفرازها أن يظل الدم سائلًا ويستمر في التدفق بحرية طوال مدة التغذية.
- إنزيم الهيالورونيداز (Hyaluronidase): يعمل هذا الإنزيم على زيادة نفاذية الجلد والأنسجة من خلال تحليل المادة الأساسية بين الخلايا. هذا يضمن انتشار المركبات الأخرى بسرعة وفعالية في المنطقة، ويسهل وصول العلق إلى الشعيرات الدموية.
تُفرز جميع هذه المواد قبل أن يبدأ العلق في مص الدم، وهو ما يساهم في الشعور بالتحسن الفوري في السياق العلاجي بفضل تأثيرات توسيع الأوعية وتسييل الدم.
3. عملية الامتصاص والهضم:
بمجرد عمل المركبات الثلاثة وفتح تيار الدم عبر الخدش:
- المص الفعال: يبدأ العلق في امتصاص الدم بقوة، وذلك بفضل جدران البلعوم العضلية القوية التي تعمل كآلية شفط فعالة.
- كمية الوجبة: تتمكن العلقة الواحدة من امتصاص كمية كبيرة نسبيًا، تتراوح بين 3 إلى 6 جرامات من الدم.
- التخزين والهضم: ينتقل الدم الممتص إلى الحوصلة (Crop)، حيث يتم تخزينه وهضمه جزئيًا، ثم يمر لاحقًا إلى المعدة فـ الأمعاء ومنها إلى المستقيم للتخلص من الفضلات.
4. وظائف البكتيريا التكافلية داخل حوصلة العلق:
يستضيف العلق داخل حوصلته نوعًا من البكتيريا التكافلية التي لا تسبب له أي ضرر، بل تقوم بعدة وظائف حيوية تضمن بقاء العلق واستفادته القصوى من وجبة الدم الضخمة التي يتناولها:
- هضم البروتينات المعقدة: تفرز هذه البكتيريا إنزيمات قوية تساعد على تكسير البروتينات المعقدة الموجودة في الدم، وتحويلها إلى مركبات أبسط يسهل على العلق امتصاصها واستخدامها كمغذيات.
- تزويد بالفيتامينات: تقوم البكتيريا بتصنيع فيتامين B12 (كوبالامين)، وهو فيتامين أساسي لا يتوفر بتركيزات كافية في وجبة الدم وحدها.
- الحماية ضد التلوث: تمنع هذه البكتيريا نمو وتكاثر أي أنواع أخرى من البكتيريا الضارة داخل جسم العلق، مما يوفر له حماية مناعية ويمنع تعفن الدم.
- الحفاظ على الدم المخزن: بفضل إفرازها لبعض الإنزيمات، تحافظ هذه البكتيريا على تخزين الدم داخل الحوصلة خلال فترة الصيام التي قد تمتد إلى 6 أشهر دون أن يتلف أو يتغير، مما يضمن بقاء الوجبة بكفاءتها الغذائية للاستفادة منها لاحقًا.
5. تنوع طرق تغذية العلق:
على الرغم من شهرة العلق بامتصاص الدم (الذي يسمى التطفل)، إلا أن العلق يتغذى بثلاث طرق بيولوجية مختلفة حسب النوع:
- الامتصاص (التطفل): بعض أنواع العلق، ومن ضمنها العلق الطبي، تتغذى كـ طفيليات (Parasites) عن طريق امتصاص دم الحيوانات الأخرى (فقاريات في الغالب).
- الترمم: بعض الأنواع الأخرى هي من المترممات (Scavengers) التي تتغذى على الحيوانات الميتة والمواد العضوية المتحللة.
- الافتراس: تعمل بعض الأنواع كـ مفترسات (Predators) تتغذى على كائنات حية أصغر حجمًا مثل الحشرات المائية، والبزاق، والحلزونات.
