حكم نقل الدم وتخريجه الشرعي.. مشروعية القول بجواز نقل الدم للمريض عند الحاجة الماسة إليه



اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم نقل الدم وتخريجه على ما ذهب إليه الأقدمون، والسبب في اختلافهم يرجع إلى عدة أسباب أهمها:

1- اختلافهم في أن حياة الإنسان وجسمه، وكافة ما يتصل بهذا الجهاز الآدمي هل هي حق خالص لله تعالى، ومن ثم فإن أي تصرف للإنسان في شيء منه يعد تصرفا فيما لا يملك، أو أنها حقوق مشتركة لله تعالى وللعبد وحق الله تعالى غالب، وما كان كذلك جاز للعبد إسقاط جزئياته.

2- اختلافهم في طهارة الدم ونجاسته إذا كان خارجا من غير المخرج المعتاد، وقد سبق الكلام على هذه المسألة وخلصنا فيها إلى القول بطهارة الدم في هذه الحالة.

3- اختلافهم في جواز التداوي بالمحرمات.

4- اختلافهم في جواز الانتفاع بجزء الآدمي.

وأغلب المعاصرين على القول بجواز نقل الدم من إنسان إلى آخر ومن جملة ما استدلوا به:

1- قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: ٣)، وجه الدلالة: هذه الآيات وغيرها وردت بأصل عام في الدين هو إباحة تناول المحظور عند الاضطرار، وبناء عل ذلك صاغ الفقهاء القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات)، وإذا جاز تناول المحظور كالميتة والخمر وغيرها حال الضرورة فإن ذلك عام في كل ما تحفظ به النفس الإنسانية من  الطعام والعلاج وغيره، (ولا شك أن المرض يعد من حالات الضرورة الملجئة إلى استعمال ما هو ممنوع؛ فالمريض إذا اضطر إلى تناول شيء من المحرمات فإنه يباح له تناول الميتة والدم إذا تعين الإنقاذ في ذلك، ولم يجد من المباح ما يحفظ به حياته).

وهذا على القول بأن الدم نجس، والقول إن التداوي بالمحرمات لا يجوز، أما بناء على القول بأن الدم طاهر، والتداوي بالمحرمات جائز عند الضرورة؛ حفظا للنفس الإنسانية – وهما قولان يتفقان مع روح الشريعة وواقعيتها – فليست هناك أدنى مشكلة في التداوي بنقل الدم.

2- قال رسول الله (ص): (من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ).
وفي نقل الدم منفعة لكل من المعطي والآخذ - كما بين أهل الطب -، فلا يمتنع.

3- إن حفظ النفس الإنسانية من مقاصد الشرع الضرورية التي جاءت الشريعة بحفظها ورعايتها، وشرعت من الأحكام ما يكفل ذلك، وهذا ما أكده كثير من العلماء، ومنهم الغزالي، حيث ذكر أن: "مقصود الشرع من الخلق خمسة؛ وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة".

فإذا كانت النفس قد عرض لها حالة من المرض التي لا يمكن علاجها إلا بإعطاء المريض كمية من الدم - كما هو مقرر عند الأطباء - كان من الواجب فعل ذلك؛ حفاظا على النفس الإنسانية من الهلاك، وإعمالا لأصل من أصول الفقه وهو (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وقاعدة (للوسائل أحكام المقاصد من الندب والإيجاب والتحريم والكراهة والإباحة).

وهذا ما أكده أيضا ابن قيم الجوزية بكلامه حين قال: "الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا على الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ في الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا وَمَصَالِحُ كُلُّهَا وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عن الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى العبث فَلَيْسَتْ من الشَّرِيعَةِ".

4- القواعد الفقهية التي تم الاتفاق عليها بالجملة بالنظر إلى النصوص الشرعية التي نهضت بحجيتها ومنها؛ (الضرر يزال)، و(الضرورات تبيح المحظورات)، و(يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما)، و(المشقة تجلب التيسير)، و(الضرر يدفع بقدر الإمكان).

5- إن الدم وإن كان عضوا من أعضاء الإنسان إلا أنه عضو متجدد، والتبرع به - وفق الشروط والضوابط الخاصة بذلك – لا ينبني عليه إزالة منفعة عضو؛ إذ الدم يتجدد كما بينا سابقا، إضافة إلى أن فيه منفعة لمحتاج إليه حاجة ملحة إن لم تكن ضرورية.

بناء على ما سبق يتضح أن أساس مشروعية القول بجواز نقل الدم للمريض عند الحاجة الماسة إليه نهضت بحجيته النصوص الشرعية من القرآن والسنة، ويبنى على حالة الضرورة، ورفع الضرر؛ ذلك أن حاجة كثير من المرضى للدم تصل إلى حد الضرورة التي يتعين فيها الدم لإنقاذ حياتهم؛ إذ الدم البشري لا نظير له في الواقع العملي؛ ولا يمكن الحصول عليه من غير الإنسان، بل إن بعض المعاصرين يرى أن الضرورة في نقل الدم ضرورة غذائية وليست علاجية؛ إذ كمية الدم نقصت فيحتاج إلى تغذيتها، ولهذا فهو داخل في حكم المنصوص عليه بإباحة تناول المضطر في مخمصة من المحرمات لإنقاذ نفسه من الهلاك.