المدرسة البنائية (Structuralism) في علم النفس: تحليل بنية الشعور
تُعد المدرسة البنائية أول تيار فكري ومنهجي يظهر في علم النفس الحديث. ركز هذا الاتجاه على تحليل الخبرة الشعورية الداخلية للإنسان، محاولاً تأسيس علم النفس كعلم تجريبي مستقل.
أولاً: المؤسسون والمنهج الأساسي
1. ويليهام فونت (Wilhelm Wundt) – مؤسس علم النفس الحديث:
يُعتبر ويليهام فونت (ألماني الجنسية، 1832-1920م) المؤسس الفعلي لعلم النفس الحديث.
- خلفيته: كان فونت في الأساس عالم فسيولوجيا (Physiologist)، وقد سعى لتطبيق منهج البحث المنظم الذي يُستخدم في علوم مثل الكيمياء والفيزياء على دراسة الظواهر العقلية.
- المعمل الرائد: أسس أول معمل لعلم النفس التجريبي في لايبزيغ بألمانيا عام 1879م، حيث بدأ بإجراء تحليلات منظمة لبنية الشعور عند الراشدين.
- الاهتمامات المبكرة: كان فونت مولعاً بدراسة تأثير الإيقاع والزمن على العمليات العقلية، مستخدماً أدوات مثل المترونوم (جهاز بندولي يصدر دقات منتظمة) لقياس زمن ردود الأفعال والخبرات الشعورية البسيطة.
2. المنهج البنائي (Structural Focus):
- الهدف الأساسي: تحليل بنية الشعور (Structure of Consciousness) عن طريق تقسيم الخبرة الشعورية إلى عناصرها الأولية أو الأساسية (مثل الأحاسيس والصور والمشاعر)، ثم استكشاف كيفية تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض لتكوين الخبرة الكلية.
- الامتداد إلى أمريكا: تبنى أفكار فونت وطورها في الولايات المتحدة تلميذه إدوارد بي. تتشنر (Edward B. Titchener)، الذي يُعد المؤسس الحقيقي للمدرسة البنائية في أمريكا.
3. المنهج البحثي: الاستبطان (Introspection)
توصل فونت وتتشنر إلى أن أفضل طريقة لدراسة الشعور هي الاستبطان (الملاحظة الذاتية):
- التعريف: هي عملية يقوم فيها المفحوص (الراشد) بوصف وتحليل خبرته الشعورية الداخلية فور وقوعها بطريقة منظمة وممنهجة.
- التطبيق: يُطلب من المفحوص، مثلاً، وصف إحساسه بلون أو صوت معين من حيث شدته ونوعه ومدته، لتفكيك الخبرة إلى عناصرها الأولية النقية.
ثانياً: تركيز المدرسة ومواضيع إهمالها
1. المواضيع التي تم التركيز عليها:
انحصر تركيز المدرسة البنائية بشكل شبه كامل في دراسة الخبرة الشعورية الواعية للراشدين في ظل ظروف تجريبية محكمة.
2. الجوانب التي لم تهتم بها البنائية (نقاط القصور الذاتي):
بسبب تركيزها الضيق على الشعور الواعي القابل للتجريب عبر الاستبطان، أهملت المدرسة البنائية المواضيع التالية:
- علم النفس المرضي (المرض العقلي).
- سلوك الحيوان (Animal Behavior).
- اللاشعور والأحلام.
- مرحلة الطفولة وسلوك الأطفال.
- الفروق الفردية في الشخصية أو الذكاء (نسب الذكاء).
ثالثاً: الانتقادات الموجهة لمنهج الاستبطان
على الرغم من أهمية تأسيسها المنهجي، واجهت المدرسة البنائية ومنهجها الأساسي (الاستبطان) انتقادات حادة أدت إلى رفضها لاحقاً في عام 1930م:
- تشويه الخبرة الشعورية: اعتُبرت عملية الاستبطان ذاتها تقطع عملية الشعور وتغير من طبيعة الحالة الشعورية التي يفترض دراستها (فمجرد الملاحظة الذاتية تغير من المشاعر).
- الافتقار للموضوعية (الذاتية المطلقة): الاستبطان عملية ذاتية بطبيعتها، وليست عملية موضوعية قابلة للقياس الكمي المباشر.
- تباين النتائج: ظهر أن نتائج الباحثين تختلف وتتباين حتى عند دراسة نفس الظاهرة، مما يخل بمبدأ قابلية التكرار في البحث العلمي.
- مشكلة الصدق (Verifiability): من الصعب على الباحث كشف مدى صدق أو كذب ما يقوله المفحوص عن خبرته الداخلية.
- حدود اللغة: اللغة أداة غير دقيقة، حيث لا تعبر بدقة عن الفكر أو عمق الشعور، كما أن الأفراد يختلفون في قدراتهم اللغوية والتعبيرية.
رابعاً: الإسهامات والفوائد التاريخية للمدرسة البنائية
على الرغم من زوالها، قدمت البنائية أسساً ساعدت في تطور علم النفس:
- تأسيس النظام العلمي: قدمت نظاماً علمياً قوياً وخطوات منهجية محكمة لإجراء البحوث في علم النفس، مما جعله علماً مستقلاً.
- أهمية المنهج: قدمت منهج الاستبطان للاختبار، والذي وإن كان مرفوضاً كمنهج وحيد، إلا أنه لا يزال يُستخدم كأداة مساعدة في مجالات أخرى (مثل العلاج النفسي).
- الأساس لمدارس أخرى: كانت البنائية بمثابة المؤسسة العلمية التي أدت ردود الفعل عليها إلى ظهور مدارس أخرى أكثر تطوراً، مثل المدرسة الوظيفية والسلوكية والجشطالت، التي نشأت إما كتحدي لمنهجها أو كنقد لمواضيعها.
