فيروس التهاب الكبد الوبائي من النوع B:
يمثل فيروس التهاب الكبد الوبائي من النوع B (HBV) واحدًا من أخطر التهديدات الصحية على مستوى العالم، فهو لا يسبب مرضًا حادًا فحسب، بل يمكن أن يتطور ليصبح مرضًا مزمنًا يؤدي إلى مضاعفات خطيرة ومميتة. يُعدّ هذا الفيروس ثاني أكبر مسبب للسرطان بعد التبغ، والأكثر انتشارًا من فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)، مما يجعله مشكلة صحية تتطلب يقظة ووقاية فعالة.
1. طبيعة الفيروس وآليات الإصابة:
ينتمي فيروس التهاب الكبد B إلى فئة من الفيروسات التي تتشارك في استهداف خلايا الكبد (Hepatocytes). يتميز هذا الفيروس بكونه قويًا وقادرًا على البقاء حيًا خارج الجسم لأيام، مما يزيد من فرص انتقاله.
طرق الانتقال الرئيسية:
- الانتقال بالدم وسوائل الجسم: يُعدّ هذا المسار هو الأكثر شيوعًا. يمكن أن ينتقل الفيروس عبر الأدوات الملوثة بالدم، مثل إبر الحقن غير المعقمة، أدوات الوشم، ثقب الأذن، وحتى أدوات الحلاقة أو فرشاة الأسنان إذا كانت ملوثة.
- الانتقال الجنسي: ينتقل الفيروس عبر الاتصال الجنسي غير الآمن مع شخص مصاب، حيث يُعدّ الفيروس موجودًا في سوائل الجسم مثل السائل المنوي والإفرازات المهبلية.
- الانتقال من الأم إلى الطفل: يُمكن أن تنتقل العدوى من الأم المصابة أو التي تحمل الفيروس إلى طفلها أثناء الولادة. هذه الطريقة تُعدّ مسؤولة عن غالبية حالات العدوى المزمنة في المناطق التي ينتشر فيها الفيروس بشكل كبير، وهذا ما يؤكد أهمية فحص الأمهات الحوامل وتطعيم المواليد الجدد فور ولادتهم.
2. مسار المرض: من العدوى الحادة إلى المضاعفات المزمنة
تختلف الاستجابة المناعية للفيروس حسب عمر الشخص المصاب، مما يؤثر على مسار المرض.
العدوى الحادة:
- الأعراض عند البالغين: تظهر الأعراض بشكل واضح في حوالي 30% إلى 50% من البالغين المصابين. تشمل الأعراض الأولية التعب، فقدان الشهية، الغثيان، آلام المفاصل، ثم تتطور إلى اليرقان (اصفرار الجلد والعينين)، والبول الداكن.
- العدوى عند الأطفال: في المقابل، فإن أكثر من 90% من الأطفال الذين يصابون بالعدوى قبل سن الخامسة لا تظهر عليهم أي أعراض، مما يجعل تشخيص المرض صعبًا في هذه المرحلة المبكرة.
العدوى المزمنة والمضاعفات:
سواء ظهرت الأعراض أم لا، فإن الجسم قد يفشل في التخلص من الفيروس، مما يؤدي إلى تطور العدوى إلى حالة مزمنة. في هذه الحالة، يبقى الفيروس نشطًا في الكبد، مما يسبب التهابًا مستمرًا يؤدي تدريجيًا إلى:
- تليف الكبد (Liver Fibrosis): هو عملية تندب للكبد، حيث تبدأ الأنسجة السليمة في التحلل وتُستبدل بأنسجة ليفية.
- تشمّع الكبد (Liver Cirrhosis): يُعدّ مرحلة متقدمة من التليف، حيث يفقد الكبد قدرته على أداء وظائفه الحيوية. يُمكن أن يؤدي التشمّع إلى فشل الكبد.
- سرطان الكبد (Hepatocellular Carcinoma): يُعتبر الالتهاب المزمن الناتج عن فيروس التهاب الكبد B هو أحد أبرز عوامل الخطر للإصابة بسرطان الكبد، حتى في غياب التشمّع.
3. لقاح التهاب الكبد B: من التكنولوجيا الحيوية إلى الحماية الفعالة
يمثل اللقاح الخط الدفاعي الأول ضد هذا الفيروس. يُصنف لقاح التهاب الكبد B كلقاح آمن وفعال للغاية، وهو نتاج للتكنولوجيا الحيوية المتقدمة.
تركيب اللقاح وآلية العمل:
- المكونات: لا يحتوي اللقاح على أي جزء حي من الفيروس، بل يحتوي فقط على مستضد السطح الفيروسي (HBsAg)، وهو بروتين يوجد على السطح الخارجي للفيروس.
- التحضير: يتم إنتاج هذا البروتين في المختبرات باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية. يتم استخلاص الجين المسؤول عن إنتاج هذا البروتين من المادة الوراثية للفيروس، ثم يتم إدخاله في خلايا الخميرة (Yeast). تقوم هذه الخلايا المعدلة وراثيًا بإنتاج كميات كبيرة من بروتين المستضد، والذي يتم جمعه وتنقيته لاستخدامه في اللقاح.
- الاستجابة المناعية: عندما يُحقن اللقاح في العضلة (عادةً في العضلة الدالية في الذراع)، يتعرف الجهاز المناعي على بروتين HBsAg كمادة غريبة. يستجيب الجهاز المناعي بإنتاج أجسام مضادة متخصصة ضد هذا البروتين. بهذه الطريقة، يُصبح الجسم "جاهزًا" لمكافحة الفيروس الحقيقي إذا تعرض له مستقبلًا، مما يمنع الإصابة بالعدوى.
إن فعالية هذا اللقاح، وكونه آمنًا، جعلا منظمة الصحة العالمية توصي بتطعيم جميع الأطفال حديثي الولادة والأشخاص الأكثر عرضة لخطر الإصابة، كخطوة حاسمة نحو القضاء على هذا المرض.