التقمص كجسر عاطفي ومعرفي: كيف تستخدم الذات استدماج الآخرين لمواجهة الإحباط، اكتساب النجاح، وتجسيد مشاعر الحب والوحدة

مفهوم التعمّق في الذات: التقمص أو التوحد (Identification)

يُعدّ التقمص أو التوحد (Identification) آلية دفاعية نفسية عميقة ولا شعورية يلجأ إليها الفرد بشكل طبيعي، حيث تمثّل عملية استدماج ذات الفرد بخصائص أو سمات أو حتى كيان شخصية أخرى، كأنها أصبحت جزءًا من ذاته. هذه العملية ليست مجرد تقليد سطحي، بل هي انصهار نفسي يهدف إلى تحقيق غايات نفسية أو عاطفية معينة.

أمثلة وتجليات التقمص في العلاقات الإنسانية:

تظهر عملية التقمص في مراحل وعلاقات مختلفة من حياة الإنسان، وتكشف عن دوافع عميقة:
  • التقمص الباحث عن القوة (تقمص الطفل بوالده): يتقمص الطفل عادةً بشخصية والده، لا سيما الأب، ليس بهدف التقليد فحسب، بل ليشعر بالقوة والهيمنة والحماية التي يراها في هذا النموذج. هذا التوحد يمنحه شعورًا بامتلاك الصفات التي يصبو إليها والتي تعوضه عن ضعف حجمه وقلة حيلته في العالم.
  • التقمص الداعم للتعاطف (تقمص الأب بابنه): يمكن أن يسير التقمص في الاتجاه المعاكس، حيث يتقمص الأب بشخصية ابنه. هذا الشكل يعكس قوة التعاطف، إذ يتيح للوالد أن يشعر فعليًا بما يشعر به الابن من مشاعر متناقضة كالسرور أو الحزن، الحب أو الكراهية. هذا الانصهار هو جوهر الأبوة الحانية، ومثاله البليغ ما قاله الأب: "من أطعم صغيري بلحة -- نزلت حلاوتها في بطني"، مما يدل على شعور مشترك باللذة.
  • التقمص في السياق الاجتماعي والثقافي:
  1. القراءة والتفاعل الفني: يتقمص قارئ القصة بشخصية بطلها. هذه العملية تُحوّل القراءة من مجرد فعل استهلاكي إلى تجارب عاطفية ومعرفية مُعاشة، حيث يعيش القارئ انتصارات البطل وإحباطاته كأنها تخصه.
  2. الانتماء للجماعة والهوية: يتقمص الفرد بشخصية الجماعة التي ينتمي إليها، سواء كانت عائلة، فريقًا، أو أمة. هنا، يصبح نجاح الجماعة نجاحًا شخصيًا له، وإحباطها إحباطًا ذاتيًا، مما يعزز الهوية الجماعية والترابط الاجتماعي.
  • التقمص في علاقات المحبة والذوبان: يصل التقمص ذروته في أحاديث المحبين، حيث يتوحد المحبون نفسيًا وعاطفيًا لدرجة أنهم يشعرون بما يشعر به أحباؤهم، بل ويصل الأمر إلى "الذوبان" الروحي والنفسي، ليصبحا كـ "كل لا يتجزأ". وقد وصف الشاعر هذا الذوبان بقوله: أنا من أهوى، ومن أهوى أنا - نحن روحان حللنا بدنا

الوظائف والأهداف النفسية للتقمص:

لا يقتصر التقمص على كونه مجرد تعبير عن الحب أو الانتماء، بل هو آلية فعالة لتحقيق التوازن النفسي والتعامل مع التحديات:
  • التغلب على الحزن والتعويض النفسي: يُستخدم التقمص كوسيلة لا شعورية للتعامل مع الفقد والحزن الشديدين. ومثال ذلك قصة الطفلة التي ماتت قطتها: فقد أعلنت أنها صارت قطة، وبدأت تحبو وامتنعت عن الطعام. هذا التوحد المؤقت مع الكائن المفقود هو محاولة للحفاظ عليه أو التعويض عن غيابه من خلال تحويل الذات إلى صورة منه، مما يخفف من وطأة الصدمة.
  • التحرر من الخوف والقلق (عبر التعبير): يُعدّ التقمص وسيلة لمواجهة الخوف من خلال التمثيل الإيجابي للموقف المُخيف. يظهر هذا جليًا في ألعاب الأطفال، حيث يتقمص الطفل دور طبيب الأسنان القوي، ليقوم بخلع ضرس أخيه الأصغر. من خلال تقمص دور "المُخيف" (الطبيب)، يستطيع الطفل أن يحرر نفسه من شعور الضعف والقلق الذي يصاحب الجلوس على كرسي المريض.
  • التحرر من الخوف الشديد من المُعتدي (تقمص العدوان): وهو شكل معقد يُعرف بـ "التقمص بالمعتدي". في هذا السيناريو، يتقمص الضحية بشخصية المُعتدي الذي يخشاه خوفًا شديدًا. هذا التقمص يهدف إلى:
  1. اكتساب قوة المعتدي: يُشعر الضحية ذاته بأنه أصبح قويًا كالمعتدي، مما يحرره من الشعور بالخوف والضعف الشديد.
  2. توجيه العدوان: بعد التقمص، يصبح المتقمص قادرًا على توجيه العدوان على طرف ثالث، كما حدث في مثال خوف اليهود من النازيين، مما أتاح لهم فرصة توجيه العدوان على العرب. هذه الآلية، رغم تعقيدها الأخلاقي، تُتيح للفرد الاستعداد للتوازن النفسي من خلال تفريغ شحنات الخوف وتحويلها إلى قوة دافعة أو عدوان موجه.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال